أخبار العالم

معضلة سلاسل التوريد.. «تفجيرات البيجر» تحدث زلزالاً في النظريات الأمنية العالمية

إعداد ـ محمد كمال
لم يعد من الممكن اعتبار تفجير أجهزة البيجر مجرد عملية أمنية مخابراتية استهدفت إحداث هزة قوية داخل صفوف جماعة حزب الله اللبناني، ولكن يكاد يجمع خبراء الأمن السيبراني أنها أصبحت نقطة فارقة تغير طبيعة الصراعات في العالم، فما هي الأسباب التي دفعت لهذا الاعتقاد؟
الهجمات المنسوبة لإسرائيل والتي انفجرت فيها مئات من أجهزة الاستدعاء وأجهزة الراديو ذات الاتجاهين وقتلت ما لا يقل عن 37 شخصاً وأصابت الآلاف أظهرت بوضوح مدى التهديد الذي ظل خبراء الأمن السيبراني يحذرون منه منذ سنوات، والمتعلق بسلاسل التوريد الدولية الخاصة للمعدات المحوسبة، وفق ما يقول الخبير بروس شناير لصحيفة نيويورك تايمز.
ورغم أن العمليات القاتلة كانت مذهلة وفق التقييم المخابراتي، فإن أي من العناصر المستخدمة في تنفيذها لم يكن جديداً، حيث تعد التكتيكات المتعلقة باختطاف سلسلة توريد دولية وكذلك زرع متفجرات بلاستيكية في أجهزة حزب الله، قد تم استخدامها من قبل، لكن الجديد هو أنه تم جمعهما معاً بطريقة مدمرة وواسعة، ما يسلط الضوء بشكل صارخ على الوضع الذي قد يبدو عليه مستقبل المنافسة بين القوى العظمى، سواء في زمن الحرب أو السلم، أو تلك المنطقة الرمادية بينهما والتي عرفت خلال فترة ما بـ«الحرب الباردة».
ـ الأهداف في كل مكان ـ 
ويشير خبراء الأمن السيبراني إلى أنه بعد هذه العملية فإن الأهداف أصبحت في كل مكان، فقد تتسع إلى أجهزة الكمبيوتر، وكذلك السيارات والثلاجات، أو حتى أجهزة التكييف المنزلية، فضلاً عن الهواتف المحمولة أو أي أجهزة أخرى، دون توافر الحماية اللازمة حتى الآن، وهو ما يتطلب تطويراً ثورياً في أقرب وقت من أجل آمان أكثر موثوقية في مختلف أنحاء العالم.
كانت أول عملية تلقي الضوء على مخاطر زرع متفجرات بلاستيكية وتصنيفها خطراً إرهابياً يعود إلى عام 2001، عندما حاول البريطاني ريتشارد ريد تفجير حذاء ناسف كان يرتديه على متن طائرة بوينغ تابعة للخطوط الجوية الأمريكية أثناء تحليقها فوق المحيط الأطلسي، وهي متجهة من باريس إلى ميامي، لكن تمت السيطرة عليه في اللحظة الأخيرة.
ـ الماسحات الضوئية ـ 
ثم ثارت التساؤلات وقتها عن مدى كفاءة الماسحات الضوئية المستخدمة في المطارات، في ظل عدم قدرتها على كشف المتفجرات، رغم أنها معدة في الأساس لهذا الغرض. والأمر يتعلق بالماسحات سواء تلك الموجودة عند نقاط التفتيش الأمنية، أو تلك التي تقوم بفحص الأمتعة، خصوصاً أنه حتى لو مرت كمية قليلة من المتفجرات، فإنها قادرة على إحداث ضرر كبير.
ثم أظهرت عملية بيجر مدى عدم فاعلية الماسحات الضوئية التي مرت عليها شحنة أجهزة حزب الله، فقد كانت كلها محقونة بالمادة المتفجرة دون الكشف عنها، خصوصاً إذ أخذنا في الاعتبار عدم تدخل أطراف بشرية لتمرير الشحنة دون فضح خطورة ما تحتويه.

الصورة

وإذا كانت إسرائيل قد استخدمت تكتيك الاغتيال بواسطة جهاز شخصي، عندما استهدفت أحد عناصر حماس عام 1996 وأحد نشطاء فتح عام 2000، عن طريق تفجير هاتف محمول مفخخ عن بعد، فإن الجزء الأكثر تعقيداً من الناحية اللوجستية في عملية انفجارات أجهزة اتصالات حزب الله، هو مهاجمة سلسلة التوريد الدولية للتلاعب بالأجهزة وتفخيخها.
ومن المفارقات أن الولايات المتحدة نفسها اتبعت هذا التكتيك وإن كان لأغراض مختلفة. فقد اعترض جهاز الأمن الوطني الأمريكي أجهزة اتصالات أثناء عبورها وقام بتعديلها ليس لأغراض تدميرية بل للتنصت، وهو ما كشفته وثائق إدورد سنودن، ومن المفترض أن هذه لم تكن العملية الوحيدة من هذا النوع التي تقوم بها الوكالة.
ـ الشركة الخادعة ـ 
ثم يأتي إنشاء شركة واجهة لخداع الضحايا، والذي لا يعد هو الآخر شيئاً جديداً، فبينما كشفت تقارير إعلامية أن إسرائيل أنشأت شركة لإنتاج وبيع الأجهزة المفخخة بالمتفجرات لحزب الله. ففي عام 2019، أنشأ مكتب التحقيقات الفيدرالي شركة تبيع هواتف محمولة من المفترض أنها آمنة للمجرمين للتنصت عليهم ومن ثم القبض عليهم.
وتظهر هذه العمليات أن سلاسل التوريد أصبحت معرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى، إذ يمكن لأي جهة تتفاعل مع سلاسل التوريدات عالية التقنية أن تتدخل لتفخيخها أو تحويلها إلى التنصت، كما يمكن تخريبه ليتحلل، وعلى الرغم من صعوبة الأمر، فإنه يمكن تلغيمها لتتحول إلى أداة قتل مثيرة للفزع.
ـ الخطر الأكبر ـ 
وتشير المعطيات إلى أن الأجهزة الشخصية المتصلة بالإنترنت، والبلدان التي تستخدمها بشكل كبير، مثل الولايات المتحدة معرضة للخطر. ففي عام 2007، أثبت مختبر أيداهو الوطني الأمريكي أن الهجوم السيبراني يمكن أن يتسبب في انفجار مولد الجهد العالي. وفي عام 2010، دمر فيروس كمبيوتر، يُعتقد أنه تم تطويره بشكل مشترك من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، أجهزة الطرد المركزي في منشأة نووية إيرانية. 
وكشفت وثائق سي أي إيه عام 2017 معلومات حول إمكانية اختراق السيارات عن بعد، والتي أكد موقع ويكيليكس أنه يمكن استخدامها لتنفيذ «عمليات اغتيالات لا يمكن اكتشافها تقريباً»، وفي عام 2015، قام أحد مراسلي مجلة Wired بالسماح للمتسللين بالسيطرة على سيارته عن بعد أثناء قيادته لها، ثم قاموا بتعطيل المحرك بينما كان على الطريق السريع.
ـ حذر متزايد ـ 
ومع توالي مثل هذه العمليات فقد بدأ العالم التكيف مع هذه التهديدات، إذ أضحى العديد من الدول أكثر حذراً بشكل متزايد بخصوص شراء معدات الاتصالات. وعلى سبيل المثال فإن مثل هذه الهواجس هي ما دفعت الولايات المتحدة ودول أخرى إلى التعامل الحذر مع شركات تكنولوجيا، خشية أن يتم استخدامها للتنصت، بل والأسوأ من ذلك، تعطيلها عن بعد في وقت تتصاعد فيه الأعمال العدائية. لدرجة أنه في عام 2019، كان هناك ذعر بشأن بعض سيارات مترو الأنفاق في الولايات المتحدة القادمة من الخارج، وسط اتهامات بأنه تم تعديلها للتنصت على ركابها.

الصورة

ويؤكد خبراء التقنية أنه ليس من الواضح كيفية الدفاع ضد هذه الهجمات وما شابهها، إذ تعد سلاسل التوريد الدولية عالية التقنية معقدة، وعلى سبيل المثال فإن حزب الله لم يتشكك من أن أجهزة النداء الخاصة بالجماعة جاءت من شركة مقرها المجر والتي تحمل ترخيص شركة مقرها تايوان، لأن هذه السلاسل طبيعية، بدليل أن معظم الإلكترونيات التي يشتريها الأمريكيون تأتي من الخارج، بما في ذلك أجهزة آيفون، والتي تأتي أجزاؤها من عشرات البلدان قبل أن يتم تجميعها معاً في الصين بشكل أساسي.
ـ معضلة اقتصادية ـ 
ويشير شناير إلى أن هذه مشكلة صعبة الإصلاح، فلا يمكننا أن نتخيل على سبيل المثال أن تفرض الولايات المتحدة قانوناً يلزم بتصنيع أجهزة آيفون بالكامل داخلها، إذ تعد تكاليف ذلك مرتفعة للغاية، في حين تعد سلاسل التوريد في الولايات المتحدة عالمية بشكل عميق جداً، وتغيير ذلك يتطلب إعادة الاقتصادات العالمية إلى ثمانينيات القرن الماضي.
وبعد عملية أجهزة حزب الله، فقد بات من شبه المؤكد أن مختلف دول العالم ستبدأ في النظر إلى هذا النوع من التكتيك، والذي يمكن نشره ضد أي جيش مثلاً في وقت الحرب، أو حتى ضد المدنيين في الفترة التي تسبق الحرب. وقد قامت عدة دول بالفعل بمراجعة أجهزتها العسكرية كإجراء احترازي، لكن يبدو أن العالم في حاجة ماسة لوسائل أكثر أماناً ومراقبة صارمة على سلاسل التوريد والإنتاج منعاً لأي ثغرة أمنية قد تحدث فزعاً عالمياً جديداً، وليس في لبنان وحدها التي أصابها الذعر من أي جهاز إلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى